الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإن قيل: الغرض من الظلم منفعة الدنيا. فأجاب الله عن السؤال بقوله: {لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} [القصص: 58]. اهـ. قال الفخر: قال الشافعي رضي الله عنه: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما. قال: والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه لأنه لا يمكنه التحرز عنه. قال: ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته لأن ذلك يضر بأحد الخصمين، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف، ولا يلقن المدعي عليه الإنكار والإقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا، ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الآخر، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما، ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه. وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه، وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه، وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر، وذلك هو المراد بقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل}. اهـ. قال الفخر: قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم، بل ذلك لبعضهم، ثم بقيت الآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت سائر الدلائل على أنه لابد للأمة من الإمام الأعظم، وأنه هو الذي ينصب القضاة والولاة في البلاد، صارت تلك الدلائل كالبيان لما في هذه الآية من الإجمال. اهـ. قال الفخر: {إِنَّ الله نعما يَعِظُكُمْ بِهِ} أي نعم شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف، أي نعم شيء يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل. اهـ. .قال الألوسي: .قال ابن عاشور: و(نعمّا) أصله (نعْمَ ما) رُكّبت (نعم) مع (ما) بعد طرححِ حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة، وأدغم الميمان وحرّكت العين الساكنة بالكسر للتخلّص من التقاء الساكنين. و(ما) جَوّز النحاة أن تكون اسم موصول، أو نكرة موصوفة، أو نكرة تامّة والجملة التي بعد (ما) تجري على ما يناسب معنى (مَا)، وقيل: إنّ (ما) زائدة كافّةٌ (نعمَ) عن العمل. اهـ. .قال الفخر: .قال القرطبي: والعقل يدل على ذلك؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضهما من العَمى والصمم، إذ المحل القابل للضدّين لا يخلو من أحدهما، وهو تعالى مقدّس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتّصف بالنقائص؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر. وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص. وهو أيضًا دليل سمعي يُكتفَى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام. جَلَّ الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}. ردُّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم. ويقال لله- سبحانه وتعالى- أماناتٌ وَضَعَها عِنْدَك؛ فردُّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله سبحانه سالمةً مِنْ خيانتِكَ فيها؛ فالخيانة في أمانة القلب ادعاؤك فيها، والخيانة في أمانة السِّرِّ ملاحظتك إياها. والحُكْمُ بين الناس بالعدل تسويةُ القريب والبعيد في العطاء والبذل، وألا تحملك مخامرةُ حقدٍ على انتقام لنفسٍ. اهـ. .من فوائد ابن عطية في الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب، وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة. قال القاضي أبو محمد: فهو للنبي عليه السلام وأمرائه، ثم يتناول من بعدهم، وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي عليه السلام في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية، فدخل رسول الله الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم، ونزل عليه جبريل بهذه الآية، قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه. فدعا عثمان وشيبة، فقال لهما: خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، وحكى مكي أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح، ثم دفعه وقال للنبي عليه السلام: خذه بأمانة الله. قال القاضي أبو محمد: واختلف الرواة في بعض ألفاظ هذا الخبر، زيادة ونقصانًا، إلا أنه المعنى بعينه، وقال ابن عباس: الآية في الولاة بأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهن إلى الأزواج، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس، ومع أن سببها ما ذكرناه تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لموسرٍ ولا معسر أن يمسك الأمانة، و{نعما} أصله نعم ما، سكنت الأولى وأدغمت في الثانية وحركت العين لالتقاء الساكنين، وخصت بالكسر اتباعًا للنون، وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما ومما في قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه، وكقول الشاعر: [الطويل] ونحوه، وفي هذا هي بمنزلة ربما وهي لها مخالفة في المعنى، لأن ربما معناها: التقليل، ومما معناها التكثير، ومع أن ما موطئة فهي بمعنى الذي وما وطأت إلا وهي اسم، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به. اهـ. .من فوائد الجصاص في الآية: بَابُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَ- مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي الْمَأْمُورِينَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ هُمْ، فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمَكْحُولٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَنَّهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، أَمَرَ بِأَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ مَفَاتِيحُ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ فِي كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى شَيْءِ؛ وَهَذِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} خِطَابٌ يَقْتَضِي عُمُومُهُ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ؛ وَأَظُنُّ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ ذَهَبَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِوُلَاةِ الْأَمْرِ كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ مُنْصَرِفًا إلَيْهِمْ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْخِطَابِ عُمُومًا فِي سَائِرِ النَّاسِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ خَاصًّا فِي وُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فَهُوَ أَمَانَةٌ، فَعَلَى الْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهَا رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا؛ فَمِنْ الْأَمَانَاتِ الْوَدَائِعُ وَعَلَى مُودَعِيهَا رَدُّهَا إلَى مَنْ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ فِيهَا إنْ هَلَكَتْ.
|